سورة الأنبياء - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{وَلُوطاً} قيل: هو منصوبٌ بمضمر يفسّره قوله تعالى: {ءاتيناه} أي وآتينا لوطاً، وقيل: باذكُرْ {حُكْمًا} أي حكمةً أو نبوة أو فصلاً بين الخصوم بالحق {وَعِلْماً} بما ينبغي علمُه للأنبياء عليهم السلام {ونجيناه مِنَ القرية التى كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث} أي اللّواطةَ، وُصفت بصفة أهلها وأُسندت إليها على حذف المضاف وإقامتها مُقامه كما يُؤذِن به قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين} فإنه كالتعليل له.
{وأدخلناه فِى رَحْمَتِنَا} أي في أهل رحمتِنا أو في جنتنا {إِنَّهُ مِنَ الصالحين} الذين سبقت لهم منا الحسنى.
{وَنُوحاً} أي اذكر نوحاً أي خبرَه وقوله تعالى: {إِذْ نادى} أى دعا الله تعالى على قومه بالهلاك، ظرف للمضاف أي اذكر نبأَه الواقعَ وقت دعائه {مِن قَبْلُ} أي من قبل هؤلاء المذكورين {فاستجبنا لَهُ} أي دعاءَه الذي من جملته قولُه: إني مغلوبٌ فانتصر {فنجيناه وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم} وهو الطوفانُ، وقيل: أذيّةُ قومِه وأصلُ الكرب الغمُّ الشديد.
{ونصرناه} نصراً مستتبِعاً للانتقام والانتصار ولذلك قيل: {مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} وحملُه على فانتصر يأباه ما ذكر من دعائه عليه السلام فإنه ظاهرَه يوجب إسنادَ الانتصارِ إليه تعالى مع ما فيه من تهويل الأمر وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء} تعليلٌ لما قبله وتمهيد لما قبله وتمهيد لما بعده من قوله تعالى: {فأغرقناهم أَجْمَعِينَ} فإن الإصرارَ على تكذيب الحقِّ والانهماكَ في الشر والفساد مما يوجب الإهلاكَ قطعاً.
{وَدَاوُودَ وسليمان} إما عطفٌ على نوحاً معمولٌ لعامله وإما لمضمر معطوفٍ على ذلك العامل بتقدير المضاف وقوله تعالى: {إِذْ يَحْكُمَانِ} ظرفٌ للمضاف المقدر وصيغةُ المضارع حكايةٌ للحال الماضيةِ لاستحضار صورتِها، أي اذكر خبرَهما وقت حُكمِهما {فِى الحرث} أي في حق الزرعِ أو الكرم المتدلّي عناقيدُه كما قيل، أو بدلُ اشتمال منهما وقوله تعالى: {إِذْ نَفَشَتْ} أي تفرّقت وانتشرت {فِيهِ غَنَمُ القوم} ليلاً بلا راعٍ فرَعَتْه وأفسدتْه ظرفٌ للحكم {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} أي لحُكم الحاكمين والمتحاكمين إليهما، فإن الإضافةَ لمجرد الاختصاص المنتظمِ لاختصاص القيامِ واختصاصِ الوقوع، وقرئ: {لحكمهما} {شاهدين} حاضرين علماً والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ للحكم ومفيدٌ لمزيد الاعتناءِ بشأنه.


{ففهمناها سليمان} عطفٌ على يحكمان فإنه على حكم الماضي، وقرئ: {فأفهمناها} والضميرُ للحكومة أو الفُتيا، روي أنه دخل على داودَ عليه السلام رجلان، فقال أحدهما: إن غنَمَ هذا دخلت في حرثي ليلاً فأفسدتْه فقضى له بالغنم فخرجا فمرّا على سليمان عليه السلام فأخبراه بذلك، فقال: غيرُ هذا أرفقُ بالفريقين فسمعه داودُ فدعاه، فقال له: بحق النبوةِ والأبوة إلا أخبرتَني بالذي أرفقُ بالفريقين، فقال: أرى أن تُدفع الغنَمُ إلى صاحب الأرض لينتفعَ بدرها ونسلِها وصوفِها، والحرثَ إلى أرباب الغنم ليقوموا عليه حتى يعودَ إلى ما كان ثم يترادّا، فقال: القضاءُ ما قضيتَ وأمضى الحُكْمَ بذلك، والذي عندي أن حكْمَهما عليهما السلام كان بالاجتهاد فإن قولَ سليمان عليه الصلاة والسلام: غيرُ هذا أرفقُ بالفريقين، ثم قولُه: أرى أن تُدفع الخ، صريحٌ في أنه ليس بطريق الوحي وإلا لبتّ القولَ بذلك ولما ناشده داودُ عليهما السلام لإظهار ما عنده بل وجب عليه أن يُظهِره بدْأً وحرُم عليه كتمُه، ومن ضرورته أن يكون القضاءُ السابقُ أيضاً كذلك ضرورةَ استحالة نقضِ حكم النصِ بالاجتهاد، بل أقول: والله تعالى أعلم إن رأْيَ سليمان عليه السلام استحسانٌ كما ينبىء عنه قوله: أرفقُ بالفريقين ورأيَ داودَ عليه السلام قياسٌ كما أن العبدَ إذا جنى على النفس يدفعه المولى عند أبي حنيفة إلى المجنيِّ عليه أو يفديه ويبيعُه في ذلك أو يفديه عند الشافعي، وقد روي أنه لم يكن بين قيمة الحرثِ وقيمة الغنمِ تفاوتٌ، وأما سليمانُ عليه السلام فقد استحسن حيث جعل الانتفاعَ بالغنم بإزاء ما فات من الانتفاع بالحرث من غير أن يزول مُلكُ المالك عن الغنم، وأوجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث إلى أن يزولَ الضررُ الذي أتاه من قِبله كما قال أصحابُ الشافعيِّ فيمن غصب عبداً فأبَقَ منه: أنه يضمن القيمةَ فينتفعَ بها المغصوبُ منه بإزاء ما فوّته الغاصبُ من المنافع فإذا ظهر الآبقُ ترادّا وفي قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} دليلٌ على رجحان قولِه ورجوعِ داودَ عليه السلام إليه مع أن الحكمَ المبنيَّ على الاجتهاد لا يُنقَض باجتهاد آخرَ وإن كان أقوى منه لما أن ذلك من خصائص شريعتِنا، على أنه ورد في الأخبار أن داودَ عليه السلام لم يكن بتّ الحكمَ في ذلك حتى سمع من سليمانَ وأما حكمُ المسألةِ في شريعتنا فعند أبي حنيفة رحمه الله لا ضمانَ إن لم يكن معها سائقٌ أو قائد، وعند الشافعي يجب الضمانُ ليلاً لا نهاراً وقوله تعالى: {وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} لدفع ما عسى يوهمه تخصيصُ سليمانَ عليه السلام بالتفهيم من عدم كون حكم داودَ عليه السلام حكماً شرعياً، أي وكلُّ واحد منهما آتينا حكماً وعلماً كثيراً لا سليمانُ وحده، وهذا إنما يدل على أن خطأَ المجتهدِ لا يقدح في كونه مجتهداً، وقيل: بل على أن كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ وهو مخالفٌ لقوله تعالى: {ففهمناها سليمان} ولولا النقلُ لاحتمل توافقُهما على أن قوله تعالى: {ففهمناها سليمان} لإظهار ما تفضّل عليه في صِغره فإنه عليه السلام كان حيئنذ ابن إحدى عشْرة سنةً {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودُ الجبال} شروعٌ في بيان ما يختص بكل منهما من كراماته تعالى إثرَ بيان كرامتِه العامة لهما {يُسَبّحْنَ} أي يقدّسْن الله عز وجل معه بصوت يتمثل له أو يخلق الله تعالى فيها الكلامَ، وقيل: يسِرْن معه من السباحة وهو حالٌ من الجبال أو استئنافٌ مبين لكيفية التسخيرِ ومع متعلقةٌ بالتسخير، وقيل: بالتسبيح وهو بعيد {والطير} عطفٌ على الجبال أو مفعولٌ معه، وقرئ بالرفع على الابتداء والخبرُ محذوفٌ، أي والطيرُ مسخراتٌ، وقيل: على العطف على الضمير في يسبحن وفيه ضعفٌ لعدم التأكيد والفصلِ {وَكُنَّا فاعلين} أي من شأننا أن نفعل أمثالَه فليس ذلك ببِدْعٍ منا وإن كان بديعاً عندكم.


{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ} أي عملَ الدِّرْعِ وهو في الأصل اللباسُ قال قائلهم:
إلبَسْ لكل حالة لَبوسَها *** إما نعيمَها وإما بوسَها
وقيل: كانت صفائح فحلقها وسرَدها {لَكُمْ} متعلقٌ بعلّمنا أو بمحذوف هو صفةُ لَبوس {لِتُحْصِنَكُمْ} أي اللبوسُ بتأويل الدرع، وقرئ بالتذكير على أن الضمير لداودَ عليه السلام أو للّبوس، وقرئ بنون العظمة وهو بدلُ اشتمال من لكم بإعادة الجارّ مبينٌ لكيفية الاختصاصِ والمنفعةِ المستفادةِ من لام لكم {مّن بَأْسِكُمْ} قيل: من حرب عدوِّكم، وقيل: من وقع السلاح فيكم {فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون} أمرٌ واردٌ على صورة الاستفهامِ للمبالغة أو التقريع.
{ولسليمان الريح} أي وسخرنا له الريحَ، وإيرادُ اللام هاهنا دون الأول للدِلالة على ما بين التسخيرين من التفاوت، فإن تسخيرَ ما سخر له عليه السلام من الريح وغيرِها كان بطريق الانقيادِ الكليِّ له والامتثالِ بأمره ونهيِه والمقهوريةِ تحت ملكوتِه، وأما تسخيرُ الجبال والطيرِ لداودَ عليه السلام فلم يكن بهذه المثابة بل بطريق التبعيةِ له عليه السلام والاقتداء به في عبادة الله عز وعلا {عَاصِفَةً} حالٌ من الريح والعاملُ فيها الفعلُ المقدرُ، أي وسخرنا له الريحَ حالَ كونِها شديدةَ الهبوبِ من حيث أنها كانت تبعُد بكرسيه في مدة يسيرة من الزمان كما قال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} وكانت رُخاءً في نفسها طيبةً، وقيل: كانت رُخاءً تارة وعاصفةً أخرى حسب إرادتِه عليه الصلاة والسلام، وقرئ: {الريحُ} بالرفع على الابتداء والخبرُ هو الظرفُ المقدم وعاصفةً حينئذ حال من ضمير المبتدأ في الخبر والعاملُ ما فيه من معنى الاستقرارِ، وقرئ: {الرياح} نصباً ورفعاً {تَجْرِى بِأَمْرِهِ} بمشيئته حالٌ ثانية أو بدلٌ من الأولى أو حال من ضميرها {إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا} وهي الشام رَواحاً بعد ما سار به منه بكرةً، قال الكلبي: كان سليمانُ عليه السلام وقومه يركبون عليها من اصطخْرَ إلى الشام وإلى حيث شاء ثم يعود إلى منزله {وَكُنَّا بِكُلّ شَىْء عالمين} فنُجريه حسبما تقتضيه الحِكمة.
{وَمِنَ الشياطين} أي وسخرنا له من الشياطين {مَن يَغُوصُونَ لَهُ} في البحار ويستخرجون له من نفائسها، وقيل: مَنْ رُفع على الابتداء وخبرُه ما قبله والأولُ هو الأظهرُ {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك} أي غير ما ذكر من بناء المدن والقصورِ واختراعِ الصنائعِ الغريبة لقوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب وتماثيل} الآية، وهؤلاء أما الفرقةُ الأولى أو غيرها لعموم كلمة مَنْ، كأنه قيل: ومَن يعملون وجمعُ الضمير الراجع إليها باعتبار معناها بعد ما رشح جانبُه بقوله تعالى: {وَمِنَ الشياطين}، روي أن المسخَّر له عليه السلام كفارُهم لا مؤمنوهم لقوله تعالى: {وَمِنَ الشياطين} وقوله تعالى: {وَكُنَّا لَهُمْ حافظين} أي من أن يزيغوا عن أمره أو يُفسدوا على ما هو مقتضى جِبِلّتهم، قيل: وكل بهم جمعاً من الملائكة وجمعاً من مؤمني الجن، وقال الزجاجُ: كان يحفظهم من أن يفسدوا ما عمِلوا وكان دأبُهم أن يفسدوا بالليل ما عمِلوه بالنهار.

5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12